غرفة الاحزان
كان لي صديق أحبّه لفضله وأدبه، أكثر مما أحبّه لصلاحه ودينه ، فكان يروقني
منظره ويؤنسني محضره، ولا أبالي بعد ذلك بشيء من أخلاقه لأنني ما فكّرت قط أن أتلقّي
عنه علوم الشريعة أو درس الأخلاق.
قضيت في صحبته عهدا طويلا، ما أنكر من أمره ولاينكر من أمري حتى سافرت من
القاهرة سفرا طويلا، فتراسنا حينا ثم انقطعت عني كتبه ، فرابني من أمره ما رابني،
ثم رجعت فجعلت أكبر همي أن أراه، فطلبته في جميع المواطن التي كنت ألقاه فيها فلم
أجده . فذ هبت الى منزله، فحدثني جيرانه أنه هجره من عهد بعيد وأنهم لايعرفون أين
مصيره. فأيقنت أن قد فقدت الرجل، وأني لن أجد بعد اليوم اليه سبيلا.
بينا أنا عائد الى منزلي في ليلة من الليالي، إذ دفعني الجهل بالطريق في
هذا الظلام الى زقاق موحش مهجور، يخيّل للناظر اليه في مثل تلك الساعة التي مررت
فيها، أنه مسكن الجانّ. فشعرت كأني أخوض بحرا أسود بين جبلين شامخين. فما توسّطته
حتى سمعت في منزل من تلك المنازل المهجورة أنه تتردّد في جوف الليل، ثم تلتها
أختها وأخواتها. فأثّر في نفسي مسمعها تأثيرا شديدا، وقلت: ياللعجب، كم يكتم هذالليل
في صدره من أسرار البائسين وخفايا المحزونين.
فتلمّست الطريق الى ذلك المنزل حتى بلغته، فطرقت الباب ، ففتحت لي فتاة
صغيرة لم تكد تبلغ العاشرة من عمرها. فتأمّلتها على ضوء المصباح الضئيل الذي كان
في يدها، فاذا هي في ثيابها الممزّقة كالبدر وراء الغيوم المتقطّعة.
وقلت لها: هل عندكم مريض؟ فزفرت
زفرة كاد ينقطع لها قلبها، وقالت: أدرك أبي أيها الرجل فهو يعالج سكرات الموت.
فدنوت منه حتى صرت بجانبه، فاذا قفص من العظم يتردّد فيه النفس تردّد
الهواء في البرج الخشبي. فوضعت يدي على جبينه ففتح عينيه وأطال النظر في وجهي، ثم
فتح شفتيه قليلا قليلا وقال بصوت خافت: "أحمد الله فقد وجدت صديقي" فشعرت كأن قلبي يتمشى في صدري جزعا، وعلمت أني
قد عثرت بضالّتي التي كنت أنشدها، وكنت أتمنّى ألاّ أعثر بها وهي في طريق الفناء.
فسألته ما باله، وما هذه الحال التي صار اليها. وكأن أنسه بي أمد مصباح حياته
الضئيل بقليل من النور، فأشار اليّ انّه يحبّ النهوض، فمددت يدي اليه فاعتمد عليها
حتى استوى جالسا وأنشأ يقص عليّ القصة التالية:
منذ عشر سنين كنت أسكن أنا و والدتي بيتا يسكن بجانبه جار لنا من أرباب
الثراء والنعمة . وكان قصرهم يضم بين جناحيه فتاة ما ضمّت القصورأجنحتها على مثلها
حسنا وبهاء. فألمّ بنفسي من الوجد بها ما لم أستطع معه صبرا. فما زالت أحاول
الوصول الى قلبها بكل الوسائل فلا أصل اليه، حتى عثرت بمنفذ الوعد بالزواج،
فسلبتها قلبها وشرفها في يوم واحد. وما هي الا أيام قلائل حتىّ عرفت انّ جنينا يضطرب
في أحشائها. وصرت أتردّد بين أن أفي لها بوعدها، أو أقطع حبل ودّها، فآ ثرت الآخرعلى
الأول. وهجرت ذلك المنزل الى منزل آخر، ولم أعد أعلم بعد ذلك من أمرها شيئا.
مرّت على تلك الحادثة أعوام طوال. وفي ذات يوم جاءني منها مع البريد هذا
الكتاب. ومدّ يده تحت وسادته وأخرج كتابا باليا مصفرّا، فقرأت فيه ما يأتي:
لوكان بي أن أكتب اليك لأجدّد عهدًا مضى أو ودًّا قديما ، ما كتبت سطرا ولا
خططت حرفا، لأني لاأعتقد أن عهدا مثل الغادر، و ودًّا مثل ودّك الكاذب، يستحقّ أن
أحفل به فأذكره، أو آسف عليه فأطلب تجديده.
انّك عرفت حين تركتني أن بين جنبيّ نارا تضطرم وجنينا يضطرب، تلك للاسف على
الماضي، وذاك للخوف من المستقبل . فلم تبال بذلك وفررت منّي حتّى لا تحمل نفسك
مؤونة النظر الى شقاء انت صاحبه، ولا تكلّف يدك مسح دموح أنت مرسلها. فهل أستطيع
بعد ذلك أن أتصّور أنّك رجل شريف؟ لابل لا استطيع ان أتصوّرأنك انسان.
كذبت عليّ في دعواك أنك تحبّني، وما كنت تحب الاّ نفسك، وكل ما في الأمرأنّك
رأيتني السبيل الى إرضائها، فمررت بي في طريقك اليها، ولولا ذلك ما طرقت لي بابا،
ولا رأيت لي وجها.
خنتني إذ عاهدتني على الزواج فأخلفت وعدك، سرقت عفتي، فأصبحت ذليلة النفس
حزينة القلب، أستثقل الحياة وأسبتطئ الأجل. سلبتني راحتي لأني أصبحت مضطرّة بعد
تلك الحادثة الى الفرار من ذلك القصر الذي كنت متمتّعة فيه بعشرة أبي وأمي، تاركة
ورائي بلك النعمة الواسعة وذلك العيش الرغد الى منزل حقير في حيّ مهجور لا يعرفه
احد، ولا يطرق بابه طارق، لأقضي فيه البقيّة الباقية لي من أيّام حياتي.
قتلت أمي وأبي ن فقد علمت أنهما ماتا ، وما أحسب موتهما الا حزنا لفقدي
ويأسا من لقائي.
ما كتبت اليك هذا الكتاب لأجدّد بك عهدا. على أنني قد أصبحت على باب القبر
وفي موقف وداع الحياة بأجمعها، وكتبت اليك لأنّ لك عندي وديعة وهي فتاتك. فان كان
الذي ذهب بالرحمة من قلبك أبقى لك منها رحمة الأبوّة فخذها اليك حتى لا يدركها من
الشقاء ما أدرك أمها من قبلها.
فماأتمت قراءة الكتاب حتى نظرت اليه فرأيت دمعه ينحدرعلى خدّيه. فسألته –
وما ذا تمّ له بعد ذلك، قال-
اني ما قرأت هذا الكتاب حتى خيّل الي أنّ صدري يحاول أن ينشقّ عن قلبي حزنا
وجزعا. فأسرعت الى منزلها ، وهوهذاالمنزل الذي تراني فيه الآن ، فرأيتها في هذه
الغرفة على هذا السرير جثة هامدة لاحراك بها. و رأيت فتاتها الى جانبها تبكي بكاء
مرا، لهول ما رأيت، وعاهدت الله ألاّ أبرح هذه الغرفة التي سمّيتها " غرفة
الأحزان " حتى أعيش فيها عيشها ، وأموت موتها.
وما وصل من حديثه الى هذا حتى انعقد لسانه وسقط على فراشه فأسلم الروح وهو
يقول: ابنتي يا صديقي!
فيا أقوياء القلوب من الرجال، رفقا بضعفاء النفوس من النساء. انّكم لا
تعلمون حين تخدعوهنّ عن شرفهنّ وعفّتهن، أيّ قلب تفجعون ، و أيّ دم تسفكون.
No comments:
Post a Comment