Friday, February 13, 2015

الشريك



الشريك
يقول العالمون بتاريخ الأسراللبنانية إن أكثراللبنا نيين في وسط  لبنان وفي طرفه الجنوبي نزحوا قديما من الشمال، وخصوصا من جبيل، وما سألت لبنانيا أو بيروتيا جبلي المحتد: من أين أجدادك؟ إلا وأجابني:أصلا من جبيل. وإن أنت سألت أحد المتضلّعين بالعلوم الفنييقية والتاريخ الفينيفي، إن سألت هذا الفاضل : من أين نحن ؟ قال لك فورا: كلنا من جبيل.
تباركت جبيل وتباركت ثمرة بطنها. إنها على ما يظهر معد الجنس اللبنانيّ. وقد يكتشف غدا الأثريون فيما ينقبّون، تحت الأرض البكر، على الشواطئ المجيدة، وبين الصخورالخالدة، ما يمكنهم من الإثبات أن جبيل هي مهد الجنس الإنسانيّ.
حسبي اليوم  ما هو ينبو ع الحبور لإخواني المعاصرين ، فانّي مثلهم في التاريخ الحديث- إني من حبيل. كيف لا وقد نزح أجدادي منذ مائتي سنة من قلب تلك البلاد ، وتوطّنوا بيت شباب ومزارعها، القائم بعضها على كتف الوادي الذي أصبح يدعي بوادي "الفريكة"وقد كان جدي لأبي،رحمهما الله ، يحنّ دوما الى تلك البلاد، ويكثر من الرحلات اليها، فيقبل ترابها بعد مشقات السفر، ويعود الى أهله بأحمال من خيرها- من تبغها المشهور وتينها المجفف - وبقطيع من مواشيها.
كان جدي إذن تاجرا، وكانت التجارة في تلك الأيام تقوم على ا"لأغلب بالمقايضة. وكنت تجارة جدي ، مثل سائرالتجارات، مصدرا للكسب، وعرضة للخسارة. وكان الكسب وكان الدين ،وكان على ما يظهر العجز لدى  بعض الجبيليين . فأضا جدي الأرض الى مكاسبه ، وعاد كاأجداده ملاّ كا في جبيل.
وقد رحلت مرة ، مثل جدي ووالدي ، الى بلاد جبيل أستضي خبر ذلك العقار. وصلت الى نهر ابراهيم في عربة أثريّة عليها جلال العتق والقدم ، يجرها حصا نان من ضوامر الخيل الأصيلة، هزيلان جائعان حزينان . وهناك وقفنا . كان ذلك في العهد السعيد السابق لعهد البنزين والحديد. ولم يكن في تلك الناحية من الجبل طريق حتىّ للعربات. وما كان بجوار النهر لاخيل، ولا بغال ، فاستأجرت ما وجدت حمارا ابن أتان . وبما أنّ صاحبه لم يكن يعرف الطريق استأجر كذلك دليلا.
ورحنا نصعد في وادي نهر ابراهيم، وادي أدونيس ، في موكب فينيقي قروي، يتوسّطه السيد راكب الحمار، ويتقدّمه الدليل، ويحمي المؤخرة الحمّار. وبيده قضيب من الصفصاف.
وكان الحمّار شغفا بصوته ، فأطلقه بالمواليا، فأزعج الدليل، فأسكتّه .ثم خطر للدليل أن يقوم مقامه في إطرابي، فكان صوته أنكر من صوت الحمّار، فأسكتّه ورحنا نصعد في ذلك الجبل ساكتين، حتّى وصلنا الى المكان الذي يشرف على البطحاء المدفون فيه كنز العائلة.
نزلنا في العقبة ماشين كلّنا. نسوق الحمار أمامنا ، حتى بلغنا البطحاء، فأعدت تنظيم الموكب، إكراما لأهل القرية، وخصوصا " للشريك" الذي كان يفاخرهم "معلّميه" أي نعم ، استأنفت الركوب وأمشيت الدليل أمامي والحمار ورائي، وسرنا بهذه الأبّهة الى قرية الحصون ، المحصن فيها الكنز العظيم.
وهناك نزلنا على" الشريك " فرحب بنا ترحيب مكمود لامسعود، ولكن " الشريكة " امرأته ذبحت  لنا الذبيحة  دجاجة فينيققيّة العمر ، وجعلتها بيت القصد لمأدبة فتحت بزيتون من أرضنا وختمت بجبن من ضرع بقرتنا .
ثم جاء أهل القرية يتقدّمهم الكاهن مسلّمين مرّحبين ومتفرّجين ، سألونا عن أهلهم في أمريكا ، وعن الشرانق في جها تنا ، وعن أسعارالقمح والشعير وعن الصابون والزيت والزيتون ، وعن البقر وسوقها والمعزي ومرعاها، وعن وعن .
فأحرجو حتى الدجاجة في بطن " الفيلسوف الفصيح" فاضطربت وكادت تصيح .
وقرأت الشريكة النبيهة في عيني الأمنية القصوى ، ففرشت لي على السطح تعت خيمة من الشيح كان لا يزال طريا طيّب الأريج- فرشت فراشين ، أكرمها الله الواحد فوق الآخر. ومن غير الساحر يسطتيع أن يعمل من الفراشين فراشا ناعما وثيرا؟ بيد أنّي كنت شاكرا للشيح طيبه ، ورحت أستنشقه كمن يتمنّى سكرة منه ، فينام إذ ذاك على الحجارة .
ولكن النجوم أفسدت على الشيح عمله، فقد كانت الليلة صافية الأديم ، وكانت الكواكب كلها في أصفى وأبهج أحوالها . فبتّ أرعى النجوم . كما يقول الشاعر ، وأصحّح ما تعلّمته من علم الفلك في ليالي لبنان الصافية. وكنت بعد كل شطحة من شحات الخيال أعود الى حلمي الذهبي ، فأقول لنفسي مطمئنا : غدا يدفع الشريك ما تأخّر من حسابه – قسمتنا من ريع الأرض مدة عشر سنوات – فأعود الى"الفريكة" كما كان يعود أجدادي من رحلاتهم ، غانما ظافرا.
وجاء الصباح البسّام ، مبدالأحلام ،فأفضى الشريك الىّ بأخباره التي بدأت وانتهت بالويل والبلاء. وكانت بلاياه، يا معلمي ، من الزمان ومن الحكومة ومن المرابين ومن الجيران المعتدين ، يا معلمي ...
فهمت بالاستقراء والاستنتاج قبل أن فاه بيت القصيد ، أنّ الكنز قد ذاب، ولا جداء في السؤال عن قسمة أو حساب . ولكن المخيّلة خذلتني ، فما ما شتني الى اقصى حدود النكبة.
فبعدأن شربنا القهوة وأكلنا العنب والتسين ،وجاءت الشريكة بنارجيلة استعارتها من بيت كاهن القرية ، كشف الشريك الستار عن كل مابه ، فعلمت أنّ البيت مرهون والملك غارق بالديون  والدهر ، يا معلمي ، ملعون ابن ملعون .
فهلا تشبّهت أن بوالدي الكريم وبجدي الأكرم ، رحمهماالله ، فرفعت يدا الدائن عن البيت ، وانقذت الملك من برائن المرابين ؟
وقد أقسم الشريك بالله وبمريم العذراء وبجميع القديسين أنه يعيد اليّ المال بعد سنتين ، ويعيد الأرض الى سابق خيرها وخصبها ، فتجيئنا إذ ذاك قسمتنا في كل موسم – وحياة الله ، يا معلمي ، وحقّ جميع القدسيين .
ركبت حماري وسقته مسرعا صوب العقبة ، فعدا الدليل والحمار وراثي، فصحت بهما –المواليا، المواليا . فرفعا رأسيهما معا بالغناء فاستعذبته ،والله في تلك الساعة ، وشاركت به.

No comments:

Post a Comment