Friday, February 20, 2015

قرآن الفجر



قرآن الفجر
كنت في العاشرة من سنّي وقد جمعت القرآن كله حفظا وجوّدته بأحكم القراءة، ونحن يومئذ في مدينة دمنهور،عاصمة البحيرة. وكان أبي رحمه الله كبير القضاة الشرعيين في هذا الإقليم . ومن عادته أنه كان يعتكف كل سنة في أحد المساجد عشرة الأيام الأخيرة من شهررمضان ، يدخل المسجد فلا يبرحه الا ليلة عيد الفطر بعد انقضاء الصوم. فهناك يتأمل ويتعبد، ويهجر تراب الدنيا فلا يمشي عليه ،وتراب المعاني الأرضية فلا يتعرض له . ويدخل في الزمن المتحرر من أكثر قيود نفس، ثم لا يرى من الناس الاّ هذا النوع المدعوّ الى دخول المسجد بدعوة القوة السامية، الساجد بين يديه ربه ليدرك معني الجلال الأعظم.
وماهي حكمة هذه الأمطنة التي تقام لعبادة الله؟ إنها أمكنة قائمة في الحياة، تشعرالقلب البشريّ في نزاع الدنيا أنه في إنسان لافي بهيمة.
وذهبت ليلة فبت عند أبي في المسجد، فلما كنا في جوف الليل الأخيرأيقظني للسحور، ثم أمرني فتوضأت لصلاة الفجر وأقبل هو على قراءته، فلما كان السحرالأعلى هتف بالدعاء المأثور: اللهم لك الحمد ، أنت نورالسموات والأرض ، ولك الحمد، أنت بهاء السموات والأرض، ولك الحمد ، أنت زين السموات والأرض، ولك الحمد ، أنت قيام السموات والأرض ومن فيهن ومن عليهن ، أنت الحق ومنك الحق ..الى آخر الدعاء.
وأقبل الناس الى المسجد، فانحدرنا من تلك العلية التي يسمونها " الدكة" وجلسنا ننتظر الصلاة. وكانت المساجد في ذلك العهد تضاء بقناديل الزيت، في كل قنديل نور يرتعش خافتا ضئيلا كأنه بعض معاني الضوء لا الضوء نفسه . فكانت هذه القناديل والظلام حولها تلوح كأنها شقوق مضيئة في الجو، فلا تكشف الليل ولكن تكشف أسراره الجميلة . وتبدو في الظلمة كأنها تفسير ضعيف لمعنى غامض يومئ اليه ولا يبيّنه، فما تشعر النفس الاّ أن العين تمتدّ في ضوئها من المنظور الى غير المنظور كأنها سرّ يكشف عن سرّ. فكان الجالس في المسجد وقت السحر يشعر بالحياة كأنها مخبوءة ، ويحس في المكان بقايا أحلام ، ويسري حوله ذلك المجهول الذي سيخرج منه الغد. وفي هذا الظلام النورانيّ تنكشف له أعماقه منسكبا فيها روح المسجد، فتعتريه حالة روحانية يستكين فيها للقدر هادئا وادعا.
ثم يشعر بالفحر في ذلك الوقت عند اختلاط آخرالظلام بأول الضوء شعورا نديا كأن الملائكة قد هبطت تحمل سحابة رقيقة تمسح بها على قلبه .
لا أنسى أبدًا تلك الساعة ونحن في جو المسجد، والقناديل معلقة كالنجوم في الفلك ، وتلك السرج ترتعش فيها ارتعاش خواطر الحب، والناس جالسون ،عليهم وقار أرواحهم ، ومن حول كلّ انسان هدوء قلبه.
لا أنسى أبدا تلك الساعة وقد انبعث في جو المسجد صوت غرد رخيم ، يشق الليل في مثل رنين الجرس تحت الأفق العالي وهو يرتل هذه الآيات من آخرسورة النحل.
(ادع الى سبيل ربك با لحكمة  والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ، إن ربك هوأعلم بمن ضل عن سبيله ، وهوأعلم بالمهتدين . وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين . واصبر وما صبرك إلاّ بالله ،ولا تحزن عليهم ، ولا تك في ضيق مما يمكرون. إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)
وكان هذا القارئ يملك صورته أتم ما يملك ذوالصوت المطرب، فكان يتصرف به أحلى مما يتصرف المغني في انغامه. كان صوته على ترتيب عجيب في نغماته ، يجمع بين قوة الرقة وبين الرقة القوة، ويضطرب اضطرابا روحانيا كا لحزن اعتراه الفرح على فجأة ، يصيح الصيحة تترجح في الجو وفي النفس وتترد في المكان وفي القلب . ويتحول بها الكلام الإلهي الى شيئ حقيقي ، يلمس الروح فاذا هي كالزهرة التي مسحها الندى.
وسمعنا القرآن غضّا طريا كأوّل ما نزل به الوحي، فكان هذا الصوت الجميل يدور في النفس كأنه بعض السرّ الذي يدور في نظام العالم، وكان القلب وهي يتلقى الآيات كقلب الشجرة يتناول الماء ويكسوها منه.
واهتزالمكان والزمان كأنما تجلّى المتكلم سبحانه وتعالى في كلامه ، وبدا الفجر كأنه واقف يستأذن الله أن يضيئ من هذا النور.
وكنا نسمع قرآن الفجر وكأنما محيت الدنيا التي في الخارج من المسجد، فلم يبق على الأرض إلا الإنسانية الطاهرة ومكان العبادة.
وهذه هي المعجزة الروح متى كان الإنسان في لذة روحه على طبيعته الأرضية.
أما الطفل الذي كان في يومئذ فكأنما دعي بكل ذلك ليحمل هذه الرسالة ويؤدّيها الى الرجل الذي يجيئ فيه من بعد. فأنا في كل حالة أخضع لهذا الصوت:
(ادع الى سبيل ربك ) وأنا في كل ضائقة أخشع لهذا الصوت : "واصبر وما صبرك إلا بالله"

No comments:

Post a Comment