Monday, February 16, 2015

اسماعيل والناموس



اسماعيل والناموس
بين الطفولة والشيخوخة جاذبية غربية وتشابه عجيب. كلاهما قريب من هذا العالم المجهول الذي جئنا منه وسنعود اليه . وكلاهما قليل التقدير للحياة، يكاد لايهتم بها ، هذا عن جهل بها، وذالك عن علم وتجربة ، هذا يبسم للحياة ابتسام الطرب والأمل والفرح ، وذاك يبسم لها ابتسام السخر واليأس والألم .
وكثير ما نرى في خلق الشيخ ما يقرّبه من الطفولة، كأنما الحلقة قد تمت وعادت الى مبدئها من جديد. وكثيرا ما يتصادق الشيخ والطفل صداقة حلوة طاهرة عميقة . فاذا كانت هذه الصداقة تقوّيها رابطة أوثق كرابطة النسب أو القرابة كا نت أعمق وأدوم.
كنت أفكر في هذا وأنا جالسة الى مكتبي أقرأ درسي. وكانت جدتي شغلي الشاغل منذ عدت من المدرسة . فقد عدت لأجدها نا ئمة تشكو شيئا من الصداع . تعودت أن أرى جدتي دائما بعد عودتي من المدرسة لأقبلها قبلة كانت اشتيا قا لها أوّل عهدي بالمدرسة وبفراق جدتي، ثم أصبحت بعد أن صار لي صاحبات آنس اليهن والى لعبهن عادة اعتدتها لا أرى لها سبباً، ولكني اذا تركتها يوماً شعرت لتركها بشيء ولو قليل من الضيق.
دق الجرس ، فأ سرعت الى جدتي أسألها ما تريد ، فسألتني وقد ظنتني خادمها هل عادت البنت من المدرسة؟ فأسرعت نحوها أقبلها كعادتي . وأضاءت جدتي النور لتعرف الوقت من ساعتها المعلقة على الحائط . ثم قالت :ألا تنامين ، انها الثامنة ليلاً؟ قلت : نعم ، بعد أن تقصي علي قصة أو حديثا عن ما ضيك . قالت : استعدي لنومك ، وتعالي ريثما أتذكر لك حديثا يعجبك ، فقد كبرت الآن وأصبحت أحاديثي لك طفلة لا يلذ لك الآن الاّ أقلها.
في ظلمة غرفة جدتي – وقد جلست الى جانبها على السرير – أخذت جدتي تقول:
كنا يا ابنتي من زمن بعيد في  "رشيد" كان جدك  رحمه الله قد نقل مع جزء من الجيش ليعمل هناك في حصونها . وكان منزلنا هناك معروفا لمكانة المرحوم زوجي . وكان أعيان "رشيد" وقد أصبحوا أصدقاء جدك بعد أن قمنا زمنا ، يزورونه كثيرا ويزورهم ، ويجتمع بهم في منزل أحدهم كلما استطاعوا أن يجتمعوا. كان بين هؤلاء رجل ثريّ يملك منزلا فخما وحديقة واسعة مليئة بالفواكه والخضروات . في هذه الحديقة كثيرا ما ذهب أولادي ليلعبوا مع أبناء صاحب الدار.
وكان ولدي اسماعيل أكثرأولادي حبا للّعب ، ولكنه كان ميّالا الى الإتلاف في لعبه . ولكم نهيته ، ولكم حاولت معه باللين حينا وبالشدة كثيرا، فلم أفلح معه في كثيرأو قليل.
كنا يا ابنتي لانعرف نظريّات في التربية ولاقواعد ، وانما كنا ننقاد في تربية أبنائنا بفطرتنا، وكانت العصا عندنا أكبر دواء لكل من أدواء الطفولة الخلفية والنفسية.
ذهب ابني اسماعيل كعادته يلعب في حديقة هذا الثريّ، ولكنه كان منذ أيام يحاور البستاني يحاوره ليصل الى الكروم . كان العنب لا يزال فجا، ولكن للأطفال ولع خاص بالفاكهة الفجة، لعله قلة اصطبار عليها حتى تنضج. وحاول البستاني أن يلهي اسماعيل بفاكهة أخرى وبوعود عن العنب يوم ينضج فلم يفلح معه . وأخيرا توعّده مقسما أنه اذا صعد الى الكروم وقطع فرعا واحدا فسيكشوه اليّ.
ولكن اسماعيل اذا أراد لعبا أو فسادا فلن يعوقه شيء مهما عظم. فغافل البستاني وتسلق السور، فاذا ما كان فوق الكروم كسر وقطع وأكل وأفسد، ما شاء له الكسر والقطع والأكل والإفساد. وما إن همّ بالنزول حتى لمحه البستاني فتلقاه نازلا على كتفيه وحمله وسار به اليّ.
وما كاد يصل البستاني ويشكواسماعيل ، وما كدت أهمّ لأحضر العصا أضربه بها، حتى جاءني خادم صاحب الدار يقول ان سيده بالباب جاء بنفسه يستحلفني ألاّ أمد الى اسماعيل يدا.
لن تتصوري يا ابنتي مقدار غيظي ساعتها ، فهذا ابني يتلف ما ل الغير، بل مال الصديق ، بعد أن حاولت معه كثيرا لأصرفه عن عادة الإتلاف هذه، ولكن هذا صديق زوجي يستحلفني ألاّ أضربه ، فماذا يكون ردّي عليه ؟ لن يكون الاّ القبول. فقبلت وانصرف السيد وخادمه ، وظللت اغلى من غيظي أيّ عقاب أنزله بهذا الشيطان بعد أن أساء اليّ والى صديق زوجي؟
وفكّرت وفكّرت ، وأخيرا اهديت الى عقاب أعاقبه به دون أن أرجع فيما وعدت به الصديق:
كان الوقت عصرا، وكانت الشمس قد مالت الى المغيب. وكنا يا ابنتي في هذا الزمن لاننعم بكهرباء تريحنا ، بل كنا نعمد الى مصابيح تضاء بالبترول لنضيئها واحداوحدا، ثم نعلّقها في عمود أو على الحائط ليشع نورها على المكان كله .
وكان مصباح خاص تعلقه في عمود وسط صحن الدار لينير لنا الممرات والمنافع. وما كادت الخادم ترفع المصباح الى مكانه من العمود حتى اتّقدت الفكرة في رأسي اتّقاد الشرارة المفاجئة . ونظرت الى اسماعيل وقلت له : سترى عقابك يا لعين بعد العشاء.
وأكل كل من بالدار واستعد واللنوم. فعمد ت الى اسماعيل وعريته وشددته الى هذا العمود تحت المصباح الذي يتهافت على نوره الناموس.
وصرخ اسماعيل ، والحق يا ابنتي أني ام أطق سماع صراخه . وكان جدك متغيبا عن منزله في مهمة من مهامّ الجيش ، فأغلقت أبواب الدار كلها، ودخلت غرفتي أحاول النوم.
كان صراخ اسماعيل عاليا متواصلا، ثم سكت قليلا قليلا حتى لم يعد الاًّ صرخة خافة قصيرة من آن لآن. عجبت لأمره وقلت لعله ملّ الصراخ فاستراح.
جاهدت وجاهدت بين قلبي وعقلي ، هذا ينكرعملي ويهيج شفقتي، وذاك يقول صبرا إن لم يكن العقاب شديدا عاد الى ذنبه ، وفي العودة عذاب لك وله . وأخيرا انتصر قلبي وخرجت من غرفتي عازمة على فكّ اسماعيل وغسله لينام. وكم كانت دهشتي وكم كان احتقاري لنفسي .
كان اسماعيل مشدودا الى العمود وعلى الأرض جلست خادمه " صباح" وقد بلل الدمع ثوبها ووجهها وصدرها وهي لا اتستطيع مسحه لأن يديها كانتا تهشّان الناموس عن جسم اسماعيل ."منشة" في كل يد تهشّ وتهشّ ، والدمع يسيل، وصوتها الخا فت المتألم يردد كل حين .
معليهشي يا سيدي ، الليل قرب ينتهي ، واسماعيل لا يجيبها الابقوله : هشيّ يا صباح والنبي، هشيّ هنا...وهنا.

No comments:

Post a Comment